روائع مختارة | قطوف إيمانية | عقائد وأفكار | الإكتئاب ... مرارة التعايش وكيفية التخّلص منه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > عقائد وأفكار > الإكتئاب ... مرارة التعايش وكيفية التخّلص منه


  الإكتئاب ... مرارة التعايش وكيفية التخّلص منه
     عدد مرات المشاهدة: 1735        عدد مرات الإرسال: 0

الإكتئاب واحد من أكثر الأمراض إيلاماً لمن يُعانون منه، فالشخص الذي يُعاني من الإكتئاب،   خاصةً الإكتئاب الشديد يجعل الشخص يعيش حياةً ملؤها الحزن والبؤس والشقاء وعدم الإستمتاع بأي شيء في الحياة، بل ان أكثر الذين يُعانون من الإكتئاب يرون بأن الحياة لا تستحق أن يعيشها الانسان، ويُفضّلون لو أنهم موتى، ويشعرون بأن الموت خيرٌ لهم من الحياة، وبعض منهم قد يُنهي حياته بنفسه عندما يصل عنده الإكتئاب إلى حدٍ لا يستطيعون معه تحمّل العيش مع مثل هذه المشاعر، وهذا ما يُعرف بالإنتحار، وتبلغ نسبة مرضى الإكتئاب الذين ينجحون في الإنتحار وإنهاء حياتهم ما يُقارب 15%، وهذا يجعل الإكتئاب أعلى مرض نفسي يُقدم من يُعاني منه على الإنتحار.

الإكتئاب أيضاً مرض مُنتشر بشكلٍ كبير بين عامة الناس، حيث ان نسبة الإكتئاب بين عامة الناس مُرتفعة، حيث تصل بين الرجال ما بين 6 إلى 9% وعند النساء مابين 9 إلى 12%، وهذه نسبة عالية لمرض عضال مثل مرض الإكتئاب.

قبل سنوات حضرت لديّ في العيادة سيدة تُعاني من إضطراب الإكتئاب منذ سنواتٍ طويلة. كان ما يُميّز هذه السيدة هو بلاغتها وفصاحتها في الكلام، لقد كانت تُعبّر عن مشاعرها كسيدة مكتئبة بصورةٍ أثارت دهشتي، فقد كانت تصف أعراض الإكتئاب التي تُعاني منها بشكلٍ رائع، فكأنما هي تقرأ من كتاب عن أعراض الإكتئاب، لقد كانت المرة الأولى التي أرى فيها شخصا يتحدّث فيها بهذه الفصاحة ويُعبّر بهذا الشكل الدقيق عن المُعاناة التي يعيشها، لقد كانت هذه السيدة حافظةً للقرآن الكريم، وتعمل معلّمة في إحدى المدارس في المملكة، إستمرت هذه السيدة تُراجعني في العيادة منذ سنواتٍ طويلة، حتى انها فعلياً كانت تُعاني من مرض الإكتئاب منذ خمسٍة وعشرين عاماً.

تناولتْ خلال هذه الفترة الزمنية من معاناتها من الإكتئاب، تقريباً معظم أنواع الأدوية المضادة للإكتئاب ولكن دون إستجابة لأي من هذه الأدوية، سوى الأعراض الجانبية للأدوية التي كانت تزيد المشكلة تعقيداً، مثل زيادة الوزن أو الحركات اللاإرادية في العضلات أو الإمساك الشديد وغيرها من أعراض الأدوية المضادة للإكتئاب، لقد وصفت هذه المريضة حالتها كمريضة إكتئاب بأنها: كأني واقفة على باب الحياة.. لأ أقدر على الخروج من الحياة وكذلك لا أستطيع الدخول إلى هذه الحياة!.

إنها تتحدث بشكلٍ مختصر عن حيرة مريض الإكتئاب، الذي لا يعرف ماذا يفعل في حياته؟ فهو يشعر بأنه خارج هذه الحياة بسبب الكآبة التي تجعله يشعر بأنه غير موجود في هذه الحياة..

يشعر بأن أحداث الحياة ليست له، وفي ذات الوقت قد يشعر بأنه مصدر التعاسة للآخرين بل إن مريض الإكتئاب قد يشعر بأنه سبب مأساة العالم، وأن كل ما يقع في العالم من مصائب هي بسببه، وهذا يُصبح مصدر تعاسةٍ كبيرة بالنسبة لمريض الإكتئاب.

هذه السيدة التي تُعاني من الإكتئاب لمدة تزيد على خمسٍ وعشرين عاماً، وصفت الحياة مع الإكتئاب بأنه تشعر بأنها فارغة من الداخل.. ليس هناك أي مشاعر تجاه الحياة أو الرغبة في العيش في هذه الحياة، بل إنها تشكو من بقائها على قيد الحياة وتتمنى الموت لكن لا ترغب أن تقوم هي بإنهاء حياتها، أي أنها لا تُريد أن تنتحر، ولكن تتمنى لو أن أحداً يتصدّق عليها بأن يُنهي حياتها وبذلك يُنهي عذابها!. لقد كانت في السابق تنتابها نوعاً من أفكار إنتحارية، بمعنى أن تقوم هي بإنهاء حياتها، ولكن مع زيادة الإستبصار عندها، تركت فكرة أن تقوم هي بإنهاء حياتها.

هذه السيدة لم تعد تهتم بأي شيء في حياتها، فهي لا تأكل إلا لماماً، فهي تتاول وجبة واحدة مرة في اليوم، عبارة عن قطعة خبز مع ماء، وفقدت وزناً بشكلٍ مُقلق، ولم تعد تهتم بأي علاقة زوجية منذ سنواتٍ طويلة، ولم تعد تذهب إلى عملها منذ فترةٍ، فتركت العمل، ولم يعد لها أي رغبة في الخروج من المنزل، ولم تعد لديها أي طاقة لعمل أي شيء سواء في المنزل أوخارج المنزل، حتى القراءة التي كانت تستمتع بها، لم تعد تستطع أن تُركّز في القراءة ولم يعد لديها الجهد الذي يُساعدها على أن تقرأ، برغم رغبتها أن تفعل شيئاً، لكن مزاجها المكتئب، والذي يجعلها دائماً خاملة، منطوية، لا ترغب في إجراء أي حديث أو حوار مع أي شخصٍ كان، لأنها لا تجد في نفسها الطاقة والقدرة على القيام بمثل هذه المحادثات أو الحوارات.

الإكتئاب مرض مؤلم لجميع من يُعانون منه، وقد كتب البروفسور أنتوني كلير، وهو أستاذ في الطب النفسي وكاتب ومقدّم برامج في التلفزيون والإذاعة، وله برنامج شهير في البرنامج الرابع في شبكة البي بي سي البريطانية، هو برنامج -على كرسي الطبيب النفسي- وكان برنامجاً ناجحاً بشكلٍ كبير وله جمهور كبير من المستمعين، حيث يستضيف أحد الأشخاص ويتناقش معه في أمر الاضطرابات النفسية، والضيوف يمكن أن يكونوا مرضى من المشاهير الذين عانوا من إضطرابات نفسية أو مرضى نفسيين عاديين يتحدثون عن مُعاناتهم مع المرض ومع العلاج وكيفية التعامل مع هذا المرض.

إستمر البرنامج -على كرسي الطبيب النفسي- سنوات وإستضاف العديد من المرضى المشاهير والعاديين وناقش معظم الأمراض النفسية والعقلية وصعوباتها مع المرضى وكيفية التعايش مع هذه الأمراض النفسية والعقلية، من خلال برامجه التلفزيونية وبرنامجه الإذاعي، كتب عدة كتب، كان أحد الكتب التي كتبها، كتاب عن الإكتئاب مع كاتب مسرحي شهير هوسبايك مليجان، عنوان الكتاب هو: الإكتئاب وكيف تتغلّب عليه، وكان الكتاب يدور حول قضية المريض الشهير والذي عانى من مرض الإكتئاب منذ سن مُبكّرة في حياته ورافقه حتى آخر أيام حياته، الكتاب نُشر عام 1994 وكتب بروفسور أنتوني كلير بأن إضطراب الإكتئاب يقتل سنوياً في بريطانيا عن طريق الإنتحار حوالي 4000 شخص، هذا الكلام كان قبل عشرين عاماً، والآن عدد الأشخاص الذين ينتحرون في بريطانيا ازداد بشكلٍ كبير حتى أن الإنتحار أصبح واحدا من الأسباب الرئيسة للوفيات بين الشباب في بريطانيا.

يتحدّث مريض الإكتئاب سبايك مليجان عن كيف عانى من الإكتئاب من سن المراهقة وإستمرت المعاناة في منتصف العمر وكذلك في سن الشيخوخة، تحدّث عن الشعور بالفراغ والخواء الداخلي الذي يشعر به طيلة حياته، تحدّث عن الأدوية التي تناولها من أجل علاج الإكتئاب وكيف لم تفده، حتى العلاج بالصدمات الكهربائية لم يُحسّن أعراض الإكتئاب عنده.

وأنا أسمع هذه السيدة تتحدّث عن الإكتئاب، أتذّكر الكلمات والأوصاف التي قرأتها في ذلك الكتاب الذي كتبه بروفسور أنتوني كلير مع سبايك مليجان، الحديث والكلمات تقريباً نفسها، سوى أن اللغة تختلف، فهنا السيدة تتحدّث بلغةٍ عربية والكتاب يتحدّث فيه المريض باللغة الانجليزية.

إن هذه السيدة التي تُعاني من الإكتئاب حاولت كل شيء للتغلّب على الإكتئاب، وفعلت كل ما في وسعها للتعايش مع هذا المرض الخطير والمؤلم والذي يُعاني فيه المريض من ضغوطٍ نفسية كبيرة، بقي أن تستخدم هذه السيدة العلاج بالصدمات الكهربائية، وأعتقد بأنها ربما تستفيد ولكن لستُ متأكداً من ذلك، صحيح أن العلاج بالصدمات الكهربائية من أكثر العلاجات الفاعلة والآمنة في نفس الوقت لعلاج الإكتئاب، ولكن أحياناً لا يُعطي أي نتيجة فاعلة في علاج الإكتئاب المزمن والذي لم يستجب للعلاج بالأدوية.

هذه السيدة حاولت أن تتعايش مع الإكتئاب بكل ما إستطاعت أن تصل إليه من علاجات دوائية، كما حاولت عن طريق العلاج النفسي، العلاج السلوكي المعرفي، ولكن لم تستفد من كل ذلك‘ حاولت عن طريق أن تدرس الدين من جديد لعل شيئا جديدا ينبثق من دراساتها للدين، والذي قادها إلى أن تدرس الأديان الآخرى، لتعرف ماهي هذه الأديان وكيف يمكن أن تستفيد من بعض الأفكار التي توجد في تلك الأديان، لكنها وجدت بأن كل ما في هذه الأديان مجرد من أي ثمرة يمكن أن تقطفها ليساعدها على الخروج من الكآبة التي تعيشها منذ سنواتٍ طويلة.

وجدت هذه السيدة بأن التعايش مع الإكتئاب هو أن تعيش مع هذه الأعراض وأن تحاول ألا تجعل هذه الأعراض الإكتئابية تُكدّر حياتها قدر ما تستطيع، تعرف بأن ذلك ليس في مقدورها أن تفعل ذلك ولكنها حاولت أن تعيش حياتها بهدوء، غير أن انعزالها عن الآخرين ومللها من جميع الأنشطة والأشياء التي كانت تستمتع بها لم تُمكّنها من ذلك، تماماً كما كانت حالة سبايك مليجان، الذي لم يشعر بأي متعةٍ من متع الحياة برغم أنه كان كاتبا مشهورا وثريا وله مكانة في الوسط الأدبي إلا أنه كان يشعر بفراغ وخواء داخلي وصفه -بالخواء الرهييب- الذي يجعل الحياة ليست ذات قيمة، وكم فكّر في أن يُنهي حياته إلا أنه لم يستطع ذلك، وبقي يُعاني من الإكتئاب وأعراضه المؤلمة طيلة حياته تقريباً.

هذه السيدة تُكرر مأساة الكاتب سبايك مليجان، الحوار الذي كتبه البروفسور أنتوني كلير مع الكاتب، يُبيّن مدى الوضع المزري الذي يعيشه مرضى الإكتئاب.

الكاتب سبايك مليجان عاش في عصرٍ لم تكن تتوفر فيه الأدوية المضادة للاكتئاب المتوفرة حالياً، والتي لها مفعول أقوى وأعراض جانبية أقل، ومع كل ذلك يبقى جزء من مرضى الإكتئاب لا يستجيبون للأدوية، ويبقى إجراء أخير وهو العلاج بالصدمات الكهربائية مع الأدوية، حيث يُعطى المريض ما بين سبع إلى اثنتي عشرة جلسة كهربائية مع الإستمرار في تناول الأدوية، وهذا قد يكون الحل أن ينتظر المريض عدة أسابيع ليرى أثر العلاج بالجلسات الكهريائية أو الصدمات الكهربائية.

في الختام يجب أن نُشير إلى أن مرض الإكتئاب، قد يكون مرضا مزمنا لا يستجيب للأدوية بل يحتاج إلى طرق آخرى للعلاج ويجب على المريض ألا ييأس من الشفاء، لأن الشفاء بيد الله سبحانه وتعالى وتبقى الأدوية والأطباء وسيلة لهذا الشفاء، ولكن على المريض أن يتناول الأدوية حتى تُستنفذ جميع الطرق الخاصة بعلاج الإكتئاب.

الكاتب: د.ابراهيم بن حسن الخضير.

المصدر: موقع المستشار.